أعضاء بشرية في أجساد حيوانات: أبحاث تتجاوز حدود الطبيعة
نذر التحوّلات الطبية والعلمية في مجال الهندسة الوراثية والخلايا الجذعية بأنّ العالم مقبل لا محالة على تغيير نوعي في طبيعة الإنسان والحيوان ومعالمهما لاحقا، حيث تبشر بمقدم عصر التصنيع للأعضاء البشرية، والاستنساخ الهجين فضلا عن إنتاج أطفال بتوفير قطع غيار بيولوجية أو ما يطلق عليه في الولايات المتحدة الأميركية بالتسوق في محلات البيع الجينية، وإنتاج كائنات متداخلة بشرية- حيوانية، ضمن أبحاث وإن كانت إلى حدّ الآن لا تحظى إلا الرفض والاستهجان، فإن العلماء يؤكدون أنها في صالح البشرية والعالم الذي يحتاج إلى تعويض النقص في عدد المتبرعين مقابل عدد المحتاجين إلى الأعضاء، فيما يثير دعم هذه البحوث التي تجمع بين الخلايا الجذعية البشرية وأجنة حيوانية، جملة تساؤلات تتداخل فيها الاعتبارات الأخلاقية والعلمية.
واشنطن - كيف يمكن أن يؤثر صعود القيادات الشعبوية في التأثير على البحث العلمي؛ سؤال أثارته التصريحات المتباينة بين مرحب لفوز الرئيس الأميركي دونالد ترامب وبين أغلبية من العلماء لم تخف قلقها من فوزه.
عكس هذا القلق فريد جاتل، رئيس تحرير مجلة ساينتفيك أميركان، بقوله «يبدو بشكل واضح أنه سيكون رئيسا مناهضا للعلم».
وفي رسالة ساخرة من الوضع الذي بات عليه مستقبل الأبحاث العلمية في ظل التطورات الحاصلة في أوروبا وأميركا، نشرتها مجلة ساينتفيك أميركان، كتب عالم الأحياء التطورية البريطاني ريتشارد دوكنز يناشد حكومة نيوزيلندا دعوة كبار العلماء من بريطانيا والولايات المتحدة إلى نيوزيلندا ومنحهم حق المواطنة، لتنقذهم من الضربة القاسية التي سيتعرض لها العلم، بعد أن تعرضت أكبر دولتين ناطقتين بالإنكليزية إلى كارثة على يد غير المتعلمين من الناخبين.
أبحاث الخلايا الجذعية
يتصدر الباحثون في مجالات الطب التجديدي وأبحاث الخلايا الجذعية فريق القلقين، خصوصا بعد أن اختار ترامب مايك بينس لمنصب نائب الرئيس، وهو محافظ عرف بانتقاده الإدارة الأميركية السابقة لدعمها أبحاث الخلايا الجذعية وتشكيكه في أزمة المناخ ونظرية التطور.
ويخشى مايكل ورنر، مدير إحدى الحملات المؤيدة للطب التجديدي من أن تعمل إدارة ترامب ونائبه بينس على تقليص التمويل الحكومي لأبحاث الخلايا الجذعية.
لكن، لا تقتصر معوقات مواصلة البحث في مجال الخلايا الجذعية على ترامب ونائبه، بل تشمل مواقف عديدة، حيث مازال العالم يتعامل بحذر ورفض مع هذه المقترحات، أساسا في ما يتعلق بالتجارب التي تتضمن الخلايا الجذعية البشرية داخل الأجنة الحيوانية.
ويسيطر الجانبان الأخلاقي والديني على المواقف من هذه الأبحاث، التي تذكر المتابعين بالكائنات الأسطورية التي نصفها حيوان ونصفها إنسان وبأفلام هوليوود التي استبقت العلم في الحديث عن هذه الكائنات، وتخليق جنين هجين من البشر والحيوان. وقد أثارت هذه الأفكار الكثير من الجدل في مختلف المجتمعات والثقافات.
وتساءلت دراسة أميركية عن جدوى استخدام الأجنة البشرية الحيوانية. ووصفت محاولة إنتاج خلايا جذعية عن طريق وضع الحمض النووي البشري في بويضة بقرة أو أرنب وتخليق جنين هجين مستنسخ بأنها ليست مفيدة.
دراسات النمو البشري في المختبر تصطدم بقوانين دولية تتيح عمل البحوث على الأجنة في الأسبوعين الأولين فقط
وكانت مجموعات من العلماء قد حاولت تخليق هجين من البشر والحيوان كمصدر للخلايا الجنينية الجذعية التي تعد أم الخلايا في جسم الإنسان. وبينما نجح الاستنساخ من شخص إلى آخر فإن الاستنساخ الهجين فشل.
لكن، في مواجهة ذلك، كتب إنسو هيون، في مجلة نايشتر، مؤكدا على ضرورة مواصلة العمل على الأبحاث في هذا المجال ولا يجب أن توقف العلماء “مخاوف وهمية حول أبحاث الكائنات الهجينة”. ويرى هيون إن لدى الأجنة “البشرية الحيوانية” فرصا كبيرة في مجال الطب الحيوي، ولكن على العلماء طمأنة الجمهور بشأنها، إذا استعادوا التمويل اللازم لإجراء الأبحاث فيها.
ويقوي هيون موقفه بأن معاهد الصحة الوطنية الأميركية تفكر في رفع حظر كان قد منع تمويل التجارب التي تتضمن الخلايا الجذعية البشرية داخل الأجنة الحيوانية. وينظر المؤيدون لهذا الموقف إلى ترامب باعتباره شخصية محبة لإثارة الجدل والمعارضة، وقد لا يجد غضاضة في دعم هذه الأبحاث رغم مواقف نائبه من هذه المشاريع. يعكس هذه الفكرة وليام بريجز، عالم الإحصاء من جامعة كورنيل بنيويورك، الذي يرى أن هناك فائدة من عدم إعجاب ترامب واهتمامه بالعلم. ويقول إن الحكومة الفيدرالية تدخلت كثيرا في الحياة العلمية، وحان الوقت للتقليص من هذا التدخل. ويُتوقع -بنسبة كبيرة- رفع الحظر الذي يمنع وصول التمويل الفيدرالي إلى مثل هذه الأبحاث في عهد ترامب.
ويواجه العالم بأكمله حاليا، نقصاً شديداً في توفر الأعضاء المتبرع بها إلى المرضى ممن يحتاجون عمليات زراعة أعضاء، إذ يموت 22 شخصاً يومياً في الولايات المتحدة فقط وهم ينتظرون توفر أعضاء على قوائم الزرع العالمية.
ويحاول الباحثون معالجة هذه المشكلة من خلال زراعة الأعضاء البشرية داخل حيوانات، مثل الخنازير والأبقار.
ويعرف خليط الحمض النووي البشري والحيواني هذا، باسم الكمير أو الكايميرا، وهو مصطلح مشتق من كلمة قديمة أطلقت على المخلوقات الهجينة الوحشية في الأساطير اليونانية.
ورغم أن هناك احتمالا كبيرا في أن تساهم هذه الأبحاث والتجارب في علاج الأمراض واختبار المخدرات وإنقاذ حياة الكثيرين، إلا أن هناك الكثير من المخاوف حول الآثار المترتبة عن وجود خلايا إنسانية في أعضاء وأنسجة حيوانات كميرية، خاصة في الجهاز العصبي، من ناحية أخلاقية.
وتنقل شبكة سي أن أن عن كاري وولينيتز، المديرة المساعدة لسياسات العلوم في مؤسسة معاهد الصحة الوطنية الأميركية، أن بعض العلماء يخشون من أن استخدام الخلايا الجذعية البشرية في هذه التجارب البشرية والحيوانية، قد تساهم في خلق عقل بشري داخل الحيوانات.
الهجين البشري الحيواني
عرف إنسو هيون، في دراسته بمجلة نيشتر، الهجين البشري الحيواني بأنه حيوان تجارب يحتوي على خلايا بشرية مزروعة فيه. ولطالما استخدمت مثل هذه الحيوانات المختلطة باعتبارها نوعا من الأنظمة التجريبية المهمة في الدراسات الطبية الحيوية، بما في ذلك أبحاث السرطان والإيدز.
ولكن، يرى البعض أن في إضافة خلايا جذعية بشرية للأجنة الحيوانية تجاوزا للخط الأحمر، وهذا هو السبب وراء فَرض معاهد الصحة الوطنية الأميركية للحظر في عام 2015، ولكنها مَوَّلَت قبل ذلك دراسات تهجين الأجنة، ما دامت لا تستخدم “كيسة أريمية رئيسة”.
وفي مسعى إلى تثبيت حجته، يقول هيون إنه يمكن لنقل الخلايا الجذعية البشرية إلى الحيوان المضيف أن يطوّر فهمنا للنمو والمرض البشريين، ويمكنه في ما بعد أن يؤدي بنا إلى تخليق أعضاء بشرية قابلة للزراعة في حيوانات مخصصة لذلك. بيد أن تَوَفُّر التمويل الفيدرالي لا يضمن استمرار الأبحاث، فهناك عدة ولايات -منها ولاية أوهايو- وضعت قوانين مشددة تحظر مثل هذه الأبحاث، كما يمكن لِلِجَان المراجعة الأخلاقية الخاصة بالخلايا الجذعية أن تعرقل المشروعات، ويمكن أيضا للرأي العام المناهِض لهذه الأبحاث أن يضع التمويل الفيدرالي في المستقبل على المحكّ مرة أخرى. وبالفعل، هناك بوادر تشير إلى أن المشورات التي أَجْرتها معاهد الصحة الأميركية قد تسببت في تجدُّد الاعتراضات على هذه النوعية من الأبحاث.
لذلك، يرى هيون أنه من المهم أن يشرح العلماء وجهة نظرهم حول أبحاث الكائنات الهجينة، وأن يدافعوا عنها، كما أن عليهم فَهم الأسباب التي تدعو معارضيها إلى الرغبة في وقفها.
يعرف إنسو هيون، في دراسته بمجلة نيشتر، الهجين البشري الحيواني بأنه حيوان تجارب يحتوي على خلايا بشرية مزروعة فيه
ولا يتساهل المنتقدون تحديدا في الدراسات التي قد تؤدي إلى تخليق كائن يحتوي على تعديلات بشرية خلوية ووظيفية في الجهاز العصبي المركزي، إذ يرون أن نقل خلايا بشرية إلى أجنّة حيوانية، أو إلى الأجهزة العصبية المركزية الخاصة بالحيوانات المضيفة، يؤدي إلى ترقية الهجين؛ ليجعل منه كائنًا يقترب من الوضع الافتراضي البشري، أو يعادله.
لكن الخلط بين “الأنسنة” البيولوجية للحيوانات الهجينة، وبين “الأنسنة” الأدبية لها ليس سوى وَهْم، فالوضع الأدبي للإنسان لا يتأتى تلقائيًّا من التكوين الجيني له، أو التنظيم الجسدي لخلاياه، بل تعززه مجموعة معقدة من الخصائص العقلية، التي لا تتحقق بصورة كاملة، إلّا في إطار ما أشار إليه الفيلسوف السويسري جان جاك روسو بـ”الحاضنة الاجتماعية”.
يرى هيون أن القلق حيال “الأنسنة” المعنوية يصرف الانتباه عن أكثر ما يهم في النزاع حول التهجين، فالتمييز الأخلاقي المحوري ليس مجرد تمييز فلسفي قديم بين الإنسان والحيوان، ولكنه يكمن في معرفة الطرق الصحيحة والخاطئة في التعامل مع الكائنات الحساسة، بما يتناسب مع مستوى التعقيد الذي يميز خصائصها.
ويشير إلى أن نظام مراقبة نماذج لحيوانات متحولة وراثيًّا، وأخرى معطلة وراثيًّا نجح، ومن ثم يمكنه أن ينجح أيضًا مع أبحاث التهجين بالخلايا الجذعية: لكن مع ذلك تبقى أبحاث هيون وغيره في مجال الخلايا الجذعية، وحتى وإن أجازتها معاهد الصحة الأميركية، محل رفض أخلاقي واجتماعي، وأيضا محل تشكيك علمي، حيث يقول جون جوردون، الحائز على جائزة نوبل في الفسيولوجيا سنة 2012، إن “استبدال الخلايا أصبح في الآونة الأخيرة احتمالا بارزا… ولكن، في لحظة، لا بد من التريث وتفادي التفاؤل المفرط الذي لا يجب أن يعطل طور البحوث التي لا تزال طريقها طويلة”.
وسبق أن أجرى هيروميتسو ناكاوشي، أستاذ في علم الجينات في كلية الطب جامعة ستانفورد، ضمن مشروع يحاول فيه اكتشاف أرجحية زرع أعضاء بشرية في الخراف والخنازير، تحميل 20 كايميرا بشرية مع الخراف أو الخنازير، لكن لم تصل أي منها إلى مرحلة الولادة.
وبين الرفض الأخلاقي والاجتماعي والديني وتبريرات العلماء بشأن أهمية الكايميرا ونتائجها الإيجابية على مستقبل البشرية، تبقى الكائنات البشرية الحيوانية صورا مستوحاة من الأساطير الخرافية وأبطال إثارة في أفلام هوليوود وأفكارا محبوسة في المختبرات العلمية، فيما يذهب البعض من المتابعين المتأثرين بسينما الخيال العلمي إلى حد الحديث عن جيوش “المتحولين” والترسانات العسكرية من الكائنات الهجينة.
ويقوي هؤلاء حجتهم بأن الكثير مما ظهر في أفلام الخيال العلمي بداية الستينات من القرن الماضي وأدهش العالم لم يعد اليوم مجرّد تخيلات إبداعية مستحيلة التحقق، بل وعلى ضوء ما نعيشه اليوم من تطورات من اكتشافات علمية، بات المستحيل “ممكنا”.